لطالما شاركت المجتمعات، في مختلف الأزمان، برسم صورة نمطية للجمال والمظهر المثالي المتناسب مع كل بلد،
وتحديد كل ما هو مقبول وموافق عليه، ونبذ المختلف والمتفرد.
ولقد كثّفت، في عصرنا هذا، وسائل التواصل الإجتماعي، الحاجة للوصول لأقرب نسخة ممكنة من تلك الصورة القياسيّة والمتّفق عليها من الجميع.
في الحقيقة، ينتابنا جميعًا، في وقتٍ ما، الاحساس بعدم الرضا التام حيال مظهرنا الخارجي،
فمن منّا لا يقلقه الأنف غير المتناسق أو البثور في الوجه أو ترهل الجسم؟
لكن، عندما يتطور هذا القلق فيستحوذ على كل تفكيرنا واهتمامنا، ويعرقل حياتنا اليومية،
يتحول لحالة مرضية تدعى باضطراب تشوه صورة الجسد (Body dysmorphic disorder)،
ينشغل المصاب بهذا المرض النفسي انشغالًا حادًا، بأحدى اختلافاته الشكليّة والتي قد تكون غير ملحوظة للآخرين، ويراها عيوبًا فاضحة.
وقد تزداد حالته تطرفًا فيتخيل عيوبًا وهمية، ويقع ضحية الهوس لتغييرها أو التستر عليها.
ممّا يزيد عزلته على نفسه نتيجة شعوره بالحرج والخجل، الأمر الذي يشكل خطرًا على حياته اليومية والمهنية والاجتماعية.
يهدد اضطراب تشوه صورة الجسد الإناث والذكور على حد سواء، وتبدأ أعراضه غالبّا في سنوات المراهقة.
تشير الإحصاءات في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أنّه يُصيب حوالي 2.4% من السكان،
كما يعد أكثر شيوعًا من اضطراب الوسواس القهري(obsessive compulsive disorder) والقهم العصبي(anorexia nervosa) والفصام(schizophrenia).
فما هي إذًا أعراض هذا الاضطراب وأسبابه وطرق علاجه؟
أعراض اضطراب تشوه صورة الجسد
من الجدير بالذّكر أنّ اضطراب تشوه صورة الجسد لا يرتبط بالشّكل الجسماني للمصاب، وإنّما بمنظوره الذاتي عن نفسه، وتصوّره لشكل جسمه،
فيعاني بذلك من أعراض عديدة أهمها.
- تستحوذ هذه الصفة الشكليّة التي يراها كعيب فاضح، على تفكيره واهتمامه، ممّا يؤدي إلى ضياع الكثير من وقته أمام المرآة، أو في تصوير أو تفحص هذا الخلل.
- تكثر أسئلته واستفساراته للمحيطين به فيما إذا كان هذا الخلل واضحًا، وإن كان إخفائه ناجحًا،
ممّا يصعب عليه قرار الخروج من المنزل ومواجهة الناس.
- يتملّكه شعور بالخجل والتوتر عند انخراطه في النشاطات الاجتماعية، لاعتقاده بأنه بشع وقبيح، وأنّ أنظار من حوله متوجّهه دائمًا نحو مايعيبه.
- يحاول إخفاء هذا العيب بشتّى الطرق، فينعزل مثلًا عن مجتمعه، أو يلجأ إلى عمليات أو مساحيق التجميل، وتتكرّر زياراته واستشاراته لأخصائييّ التجميل وأطباء الجلد.
- تسيطر عليه مشاعر الضيق والتوتر، وينحصر تركيزه على هذا الخلل الشكلي محاولًا إخفائه أو تحسينه،
فيتأثر بذلك أدائه المدرسي في حال كان مراهقًا، وتتعرقل حياة الأكبر سنًّا المهنية والاجتماعية واليومية.
ترتبط النظرة لصورة الجسم المثالي عند النساء والرجال، بالمعايير الثقافية المنتشرة في مجتمعهم، وتتمحور أبرز ملامح القلق لدى أغلب المرضى حول
- عيوب البشرة من بثور ووحمات ولادية أو ندبات وتجاعيد.
- وزن الجسم سواءًا البدانة أو النحافة.
- عضلات الجسم، والهوس ببناءها وتضخيمها.
- مشاكل الشعر، سواءًا شعر الجسم أو الرأس.
- السمات الظاهرية للوجه، والتي ترتبط عادةً بشكل الأنف، أو العيون، أو التناظر بين نصفي الوجه.
أسباب اضطراب تشوه صورة الجسد ومضاعفاته
لا يُعرف بدقّة السّبب وراء الإصابة باضطراب تشوه صورة الجسد، لكن تشترك العديد من العوامل في تحفيز الإصابة به.
- حيث تعد الوراثة ووجود أحد الأقرباء المصابين بهذا الاضطراب أو باضطراب الوسواس القهري، من أهم هذه العوامل.
- إلى جانب تأثير التغييرات في كيميائية الدماغ على تحفيز المرض.
- في الوقت ذاته، تلعب الضغوط النفسية والأحداث الحياتية الصادمة التي يتعرض لها الأشخاص وخصوصًا في مرحلة الطفولة، دورًا هامًا للإصابة به.
فالضغط الزائد من الأهل والبيئة المحيطة، واهتمامهم المبالغ فيه بالمظهر المثالي،
بالإضافة إلى الإنتقاد الدائم والمقارنة مع الآخرين وربط القيمة الاجتماعية بالشكل الخارجي،
إلى جانب، وحوادث التّنمر والسخرية التي يمر بها المراهقون، بالأخص في حال وجود سمة أو صفة شكلية مميزة كالوحمات الولادية مثلًا،
تعد جميعها عوامل خطر تؤهب للإصابة به.
وإنّ ترافق اضطراب تشوه صورة الجسد، في أغلب الأحيان، مع اضطرابات نفسية أخرى كالقلق واضطراب الوسواس القهري واضطرابات الأكل، يزيد من مضاعفاته الخطيرة.
كالاكتئاب وارتفاع معدلات الانتحار والانعزال الاجتماعي، والخضوع لعمليات تجميل لا داعي لها، إضافة إلى تدنّي الأداء المهني والدراسي.
اقرأ أيضاً: ما هو الاضطراب الاكتئابي الكبير : أعراض وأسباب وعلاج
علاج اضطراب تشوه صورة الجسد
إنّ ما يعانيه المريض من خجل إزاء الخلل أو العيب الذي يراه في المرآة ، يمنعه في
أغلب الأحيان، من مصارحة الآخرين بما يمر به،
لهذا السبب، يقاسي الكثيرون من أعراض الاضطراب لوحدهم، من دون تشخيص أو معالجة.
لكن اضطراب تشوه صورة الجسد، كغيره من الاضطرابات، لا يعالج نفسه بنفسه، أي لا يستطيع المريض أن يتعايش معه أويتجاوز مخاطره، إلّا عندما يلجأ إلى الطبيب ويبدأ بتلقي العلاج.
ينقسم العلاج المتّبع في اضطراب تشوه صورة الجسد إلى شقّين، نفسي، ودوائي.
- يقترح الأطباء في البداية على المريض، أن يخضع لما يسمّى بالعلاج السلوكي المعرفي(cognitive behavioral therapy)،
تهدف هذه الطريقة العلاجية، إلى مساعدة المريض على مواجهة المخاوف والمواقف التي تحفز لديه فيض المشاعر السلبية تدريجيًّا،
وتدريبه نفسيًا على تغيير منظوره تجاه الصور النمطية للشكل المثالي وتقويمه،
وإعادة تكوين نظرة أكثر إيجابية عن ذاته وقيمته الاجتماعية،
- أمّا في الحالات الأكثر شدّة، فيلجأ الأطباء عادةً لوصف بعض أنواع الأدوية،
من أهمها مضادات الاكتئاب من نوع مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية(SSRIs).
مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالدواء الموصوف، وعدم إيقافه أو تبديله إلّا في حال مراجعة الطبيب المشرف على الحالة.
كما أثبتت الدراسات فعالية المشاركة بين النوعين من العلاج، في الحالات المعنّدة.
وعلى الرغم من عدم توفر طريقة تمنع حدوث المرض، إلّا أنّ التشخيص المبكر(خصوصا في سن المراهقة)، والالتزام بالخطة العلاجية،
يحدّ من تطور الأعراض ويقي من حدوث الانتكاسات.
في حين تقف العائلة الداعمة والمحبة، في الخطوط الأولى، لتخفيف معاناة المصاب ومساعدته لإعادة ثقته بنفسه واحترامه لذاته وتقبّل اختلافاته.
لأنّ هذه الاختلافات تعزز الجمال والفردانية،
أمّا الشكل المثالي المرسوم ببرامج تعديل الصور والفوتوشوب، ليس سوى كذبة ومواد دعائية تصنع منّا دمى بلاستيكية متشابهة، لا تمت للواقع بصلة،
وتربط قيمتنا ونجاحنا بمظهرنا الخارجي، بدلًا من عملنا واجتهادنا.